فصل: (فرع: الائتمام بأكثر من إمام)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:أقل الجماعة]

وأما أقلُّ الجماعة: فإن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في "الأم" [1 137] (وإذا كانوا ثلاثة، فصلَّى بهم أحدهم.. كان ذلك جماعة، وإن كانوا اثنين، فأمَّ كل واحد بصاحبه.. رجوت أن تجزئهما الجماعة)، ثم قال في آخر الباب: (وإن كانوا اثنين، فصلَّى أحدهما بالآخر.. كان ذلك جماعة).
قال الشيخ أبو حامد: والذي لا خلاف فيه على المذهب، ولا بين أحد - إن شاء الله - أن الاثنين إذا أمَّ أحدهما الآخر جماعةٌ داخلة تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة».
والدليل عليه: ما روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ - قال: «الاثنان فما فوقهما جماعة».
فإن صلى في بيته بزوجته أو جاريته، أو ولده.. فقد أتى بفضيلة الجماعة.
وأما أفضل الجماعة فكلَّما كثرت فيه الجماعة.. كان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر.. فهو أحب إلى الله تعالى».
فإن كان بالبعد منه مسجد تكثر فيه الجماعة، وبالقرب منه مسجد فيه الجماعة أقلُّ من المسجد البعيد.. نظرت: فإن كانت جماعة المسجد القريب منه، تختل بتخلفه عنه، بأن يكون إمامًا له، أو كان مِمَّن يحضر الناس فيه بحضوره فيه.. فصلاته في المسجد القريب أفضل؛ لتحصل الجماعة في البلد في موضعين.
وإن كانت الجماعة في المسجد القريب، لا تختل بتخلفه عنه.. فالأفضل أن يصلِّي في المسجد البعيد الذي تكثر فيه الجماعة.
وحكى في "الإبانة" [ق 79] وجهًا آخر: أن صلاته في مسجد الجوار أفضل؛ لئلا يؤدي إلى تعطيل الجماعة الأخرى، والمذهب الأول، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل، أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين، أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر.. فهو أحب إلى الله تعالى».
فإن كان إمام المسجد البعيد مبتدعًا، رافضيًّا أو معتزليًّا أو فاسقًا مظهرًا لفسقه.. فالأفضل أن يصلي في المسجد القريب، الذي تقل فيه الجماعة بكل حال.
وقال أبو إسحاق المروزي: وصلاة المنفرد أحب إليَّ من الصلاة خلف الحنفيِّ؛ لأنه لا يرى الترتيب واجبًا في الطهارة، ولا النية، ولا يرى وجوب الأركان.
وقال في "الفروع": وقيل: الصلاة خلفه أفضل من الانفراد.

.[فرع: جماعة النساء]

وأما النساء: فجماعتهن في البيوت أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن».
فإن أرادت المرأة حضور الجماعة مع الرجل في المسجد، فإن كانت شابَّة أو كبيرة يُشتهى مِثلها.. كُرِه لها الحضور؛ لأنه يخاف الافتتان بها، وإن كانت كبيرة، لا يُشتهى مثلُها.. لم يكره لها الحضور؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الخروج إلى المساجد، إلا عجوزًا في مَنْقَلَيْهَا».
والمَنْقَلُ - بفتح الميم -: هو الخفُّ، ولم يرد أن المنقل شرط في الرخصة، وإنما ذكره؛ لأن الغالب من العجائز لبس الخفاف.

.[مسألة:نية المأموم بالاقتداء]

ولا تصح الجماعة للمأموم، حتى ينوي الاقتداء بالإمام؛ لأنه يريد أن يتبع غيره، فلا بد من نية الاتِّبَاع.
فإن صلى خلفه، وتابعه في الأفعال، ولم ينو الاقتداء به.. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان:
وإن نوى الاقتداء به، ولم يعلم الإمام.. صحت صلاته.
وقال الأوزاعي: (لا تصحُّ صلاة المأموم، حتى ينوي الإمام أنه إمامٌ، وليس بشيء).
وأما الإمام: فذكر المسعودي [في "الإبانة" ق 81]، والجويني: أنه لا يصحُّ له فضيلة الجماعة، حتى ينوي أنه إمامٌ، والذي يقتضيه المذهب: أن فضيلة الجماعة تحصل له وإن لم ينو ذلك؛ لأن هذه النية لا تصح منه عند الإحرام.

.[فرع: الائتمام بأكثر من إمام]

وإن رأى رجلين يصلِّيان، فنوى الائتمام بهما، أو بأحدهما، لا بعينه.. لم تصحَّ صلاته؛ لأنه لا يمكنه الائتمام بهما، وإن كان أحدهما يصلِّي بالآخر فنوى الائتمام بالمأموم.. لم تصحَّ صلاته؛ لأنه ائتم بمن ليس بإمام.
فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا وجد في مرضه خفَّة.. خرج يُهادى بين رجلين، فتقدم، فكان يؤم أبا بكر وحده، وأبو بكر يؤم الناس».
قال أصحابنا: فالجواب: إن هذا لا يصح عند أحد من الناس، فيكون تأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إمامًا لأبي بكر وللناس، وإنما كان أبو بكر يُسمعُهُم التكبير؛ لعجز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إبلاغهم ذلك.
وإن رأى رجلين يصلِّيان، فائتم بمن على يسار القبلة، وظنه الإمام؛ لأن السُنَّة أن يكون ذلك موقف الإمام، ثم بان أنه كان مأمومًا، خالف سُنَّة الموقف.. لم تصح صلاة المؤتم به، لأنه بان أنه ائتم بمن ليس بإمام.
فإن صلَّى رجلان في مكان واحد، واعتقد كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر.. لم تصحَّ صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما ائتم بمن ليس بإمام، فإن اعتقد كل واحد منهما أنه إمام للآخر.. صحَّت صلاتهما؛ لأن كل واحد منهما يُصلي لنفسه، ولا يتبع غيره.
وإن فرغا من الصلاة، فشكَّ كل واحد منهما أنه كان الإمام أو المأموم.. لم تصح صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لا يدري هل صحت صلاته، أم لا؟ لأنه إن كان إمامًا.. صحَّت صلاته، وإن كان مأمومًا.. لم تصح صلاته؛ لجواز أن يكون قد نوى الاقتداء بمن ليس بإمام.
وهكذا: لو طرأ الشَّكَّ عليه في أثناء الصلاة أنه إمامٌ، أو مأمومٌ.. بطلت صلاته؛ لأنه لا يدري أنه تابع، أو متبوعٌ.

.[مسألة:أعذار ترك صلاة الجماعة]

يجوز ترك الجماعة للعذر، سواءٌ قلنا: إن الجماعة فرض على الكفاية، أو سُنَّة.
والعذر في ذلك ضربان: عامٌّ، وخاصٌ.
فأما العامُّ: فمثل: المطر، والريح في الليلة المظلمة، فأما بالنهار: فإن الريح ليس بعذرٍ، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه في الليلة المظلمة المطيرة ذات الريح: «ألا صلُّوا في رحالكم».
وأما الوَحَلُ: فقال أصحابنا ببغداد: هو عذرٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ابتلت النعال.. فصلُّوا في الرحال».
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: أنع عذرٌ، كالمطر.
والثاني: ليس بعذر؛ لأنه له مُدَّةً.
قال ابن الصباغ: وكذلك الحَرُّ الشديد عذرٌ في ترك الجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر، فأبردوا بالظهر».
وأما الأعذار الخاصة: فذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عشرة أشياء:
أحدها: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه، فيبدأُ بالأكل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضر العَشَاءُ والعِشَاءُ، وأُقيمت الصلاة.. فابدءوا بالعَشَاء». ولأن ذلك يمنعه من الخشوع في الصلاة.
فإن كان طعامًا يمكنه أن يستوفيه قبل فوات وقت الصلاة.. استوفاه، وإن كان يخشى فوت الوقت.. أكل منه ما يسد به رمقه لا غير.
والثاني: أن تحضر الصلاة، وهو يدافع الأخبثين أو أحدهما، فيبدأ بقضاء حاجته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يُصلِّينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين».
فإن خالف وصلَّى مع ذلك.. صحَّت صلاته.
وقال أبو زيد المروزي: لا تصحُّ صلاته؛ لعموم الخبر.
والمذهب الأوَّل؛ لأنه غير محدثٍ، والخبر محمول على الاستحباب، كما قلنا في العَشَاء.
الثالث: أن يكون معه مرضٌ يشق القصد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مرض العبد.. قال الله لملائكته: ما كان يصنع عبدي؟ فيقولون: كان يصنع كذا وكذا، فيقول: اكتبوا له ثواب ما كان يعمل». ولأنه يشق عليه القصد.
الرابع: الخوف، وهو أن يكون عليه دين، ولا مال له يُقضى منه، ويخشى أن يحبسه غريمه إن رآه، أو يخشى السلطان ظُلمًا، فله ترك الجماعة؛ لما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء، فلم يُجبه.. فلا صلاة له، إلا من عُذر. قالوا: وما العُذر يا رسول الله؟ قال: خوفٌ، أو مرضٌ».
الخامس: السفر، وهو أن تقام الصلاة، وهو يريد السفر، ويخشى أن ترحل القافلة، ولا يلحقها، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بتخلفه عن القافلة.
السادس: خوف غلبة النوم إن انتظر الجماعة، فله أن يشتغل بالنوم؛ لأن النعاس يمنعه من الخشوع في الصلاة، ورُبما انتقضت طهارته.
السابع: أن يكون قيِّمًا بمريض يخاف ضياعه، لأن سبب حفظ الآدمي آكد من حُرمة الجماعة، فإن كان له قيِّم سواه، إلا أنه مشتغل القلب بسببه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ترك الجماعة، لأن اشتغال قلبه به يمنعه من الخشوع في الصلاة.
والثاني: ليس له ترك الجماعة به؛ لأن للمريض من يقوم به.
الثامن: أن يكون له قريب منزول به، فله ترك الجماعة، ليقف عنده؛ لأن قلبه يألم بتخلفه عنه.
التاسع: أن يخاف فساد مالهِ أو ضياعه، بأن يكون الخبز على النار، فيخشى من اشتغاله بالجماعة احتراقه، أو يقدم له من سفرٍ أو من موضع مالٌ، فيخشى لو اشتغل بالجماعة تلفه أو ذهاب منه شيء، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بذلك.
العاشر: أن يكون قد ضاع له مال، يرجو إن ترك الجماعة وجوده، فيجوز له ترك الجماعة له، لأن قلبه يألم بذهاب ماله.
وذكر القاضي أبو الطيب: إذا أكل بصلاً، أو كرَّاثًا، أو ثُومًا، فإن ذلك عذرٌ في ترك الجماعة؛ لما روي: أن النبي قال: «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين، فلا يؤذنا في مسجدنا».
قال: وهذا إذا كان لم يمكنه إزالة هذه الرائحة بغسل فيه، أو بدواءٍ، فأما إذا أمكنه ذلك: لم يكن ذلك عذرًا.
فإن أكلهما مطبوختين.. لم يكن عذرًا في ترك حضور الجماعة؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (من أراد أكلهما، فليطبخهما).
قال المسعودي [في "الإبانة" ق 80] ومن الأعذار أيضًا: أن يكون عاريًا، أو يكون عليه قصاص، ويرجو العفو.

.[مسألة:المشي بسكينة إلى الجماعة]

والمستحب لمن قصد الجماعة: أن يمشي إليها على سجية مشيه.
وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى.. أسرع؛ لما روي: أن ابن مسعود استدعى إلى الصلاة، وقال: (بادروا حدَّ الصلاة)، يعني: التكبيرة الأولى.
والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة».
إذا ثبت هذا: فروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى لله أربعين يومًا في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى.. كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق».
واختلف أصحابنا: متى يكون مدركًا للتكبيرة الأولى؟ على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متى أدركه في الركوع من الأولى.. فإنه يكون مدركًا لها، وإن أدركه بعد الركوع في الأولى.. لم يكن مدركًا لها.
والثاني: ما لم يدرك القيام في الأولى.. لا يكون مدركًا لها.
والثالث: إن كان مشتغلاً بأسباب الصلاة، مثل: الطهارة، وما أشبه ذلك، ثم أدرك الركوع في الأولى.. فإنه يكون مدركًا لها.
وإن كان مشتغلاً بأمر الدنيا، فلا يكون مدركًا لها.. ما لم يدرك القيام فيها.

.[فرع: إذا لم يحضر الإمام]

فإن حضر المأمومون ولم يحضر الإمام، فإن كان قريبًا.. بُعث إليه، سواءٌ كان إمام المسجد، أو الإمام الأعظم، فإن جاء، وإلاَّ استخلف؛ لأن في تفويت الجماعة عليه تغييرًا لقلبه.
وإن كان بعيدًا.. نظرت:
فإن لم يخافوا فتنته.. قدموا واحدًا يصلَّي بهم، متى خافوا فوات أول الوقت.
وإن خافوا إنكاره وفتنته.. قال الشافعي: (انتظروه لكيلا يفتاتوا عليه، إلا أن يخافوا فوات الوقت، فلا يجوز إخراج الصلاة عن وقتها). والأصل فيه: ما روي:
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى صلح بني عمرو بن عوف، فقدم الناس أبا بكر، فصلَّى بهم».
«وانصرف النبي في غزوة تبوك لحاجة، فقدَّم الناس عبد الرحمن بن عوفٍ، فصلَّى بهم، فرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلَّى خلفه ركعة، فلمَّا سلَّم.. قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى ما عليه، فلمَّا سلَّم.. قال: أحسنتم، أو أصبتم».
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن حضر الإمام وبعض المأمومين.. فإن الإمام يصلِّي بهم، ولا ينتظر اجتماع الباقين) وإنما كان كذلك؛ لأنَّ الصلاة في أوَّل الوقت مع الجماعة القليلة أفضل من فعلها في آخر الوقت مع الجماعة الكبيرة.

.[مسألة:تغيير نية الاقتداء]

إذا افتتح الرجل صلاة جماعةٍ ثم نقلها على صلاة جماعة أخرى، بأن يحرم بالصلاة خلف محدثٍ أو جُنبٍ لم يعلم بحاله حال الإحرام، فعلم الإمام بجنابته أو حدثه، فخرج وتطهر ورجع، فأحرم بالصلاة، وألحق المأموم صلاته بصلاته ثانيًا، أو جاء آخر وأحرم بالصلاة، فألحق المأموم صلاته بصلاته بعد علمه بجنابة الأول أو حدثه.. قال أصحابنا: فإن ذلك يجوز، بلا خلاف على المذهب، فتكون صلاة المأموم قد انعقدت أولاً جماعة بغير إمام، ثم صارت بعد ذلك جماعة بإمام.
والدليل على ذلك ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح الصلاة بأصحابه وهو جنبٌ، فلمَّا ذكر جنابته في أثناء الصلاة.. أشار إليهم كما أنتم، وخرج فاغتسل، ورجع ورأسه يقطر ماءً، فأحرم بالصلاة بهم، وبنى القوم على إحرامهم الأول، وائتموا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.».
وكلك إذا أحدث الإمام، واستخلف غيره.
وقلنا: يجوز؛ فإن المؤتم بالإمام الأول والثاني، نقل صلاته من جماعة بإمام، إلى جماعة بإمام، فيجوز ذلك؛ لما ذكرناه في الأول.
وأما إذا نقل صلاة الانفراد إلى الجماعة، بأن أحرم بالصلاة منفردًا، ثم جاء آخر، وأحرم بالصلاة، وألحق الأول صلاته بصلاة الثاني.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر الإمام.. فكبَّرُوا». فأمر بالتكبير بعد تكبير الإمام، وهذا كبَّر قبل إمامه.
ولأن هذا كان جائزًا في أول الإسلام - أن يصلي المسبوق ما فاته، ثم يدخل مع الإمام - فنسخ، فلا يجوز فعله.
والثاني: يصحُّ، وهو الأصح؛ لـ: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمَّ الناس، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فقدمه أبو بكر، فصار أبو بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا). ومعلومٌ: أن حكمه وهو إمامٌ مخالف لحكمه وهو مأمومٌ، فكذلك يجوز أن يكون منفردًا ثم يصير مأمومًا.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يختلف ترتيب صلاة الإمام والمأموم، مثل: أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام قبل أن يركع في الانفراد. فأما إذا ركع في الانفراد: فلا يصحُّ: قولاً واحدًا؛ لأنه لا يمكنه المتابعة مع اختلاف ترتيب الصلاتين.
ومنهم من قال: القولان إذا اختلف ترتيب صلاتهما، بأن يركع في حال الانفراد. فأما إذا لم يركع في حال الانفراد: فيصح، قولاً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالتين، وهو الأصح؛ لأن الشافعي لم يفرق.
فإذا قلنا: يصحُّ، وكان المأموم قد صلَّى في حال الانفراد ركعة، أو أكثر.. فإن المأموم إذا بلغ إلى آخر صلاته، وقام الإمام.. لم يجز للمأموم أن يقوم معه؛ لأن ذلك ليس من صلاته، بل يجلس ويتشهد، ثم هو بالخيار: إن شاء طوَّل الدعاء، حتى يفرغ الإمام من صلاته ويتشهد ويسلم، ثم يسلم بعده، وإن شاء أخرج نفسه من صلاة الإمام وتشهد وسلَّم، ولا تبطل صلاته بذلك، لأن ذلك مفارقة للعذر، وقد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في صلاة الخوف.
إذا ثبت هذا: فإن الأولى للمأموم، إذا أراد أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام.. أن يسلِّم من صلاة الانفراد، ويحرم بالصلاة خلف الإمام.
وإن دخل في صلاة نافلة، ثم أقيمت صلاة جماعة، فإن لم يخش فوات الجماعة.. أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها.. قطع النافلة، ودخل في الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من النافلة.

.[فرع: عدم الاشتغال عند الإقامة بغير الفريضة]

وإن حضر المأموم، وقد أُقيمت الصلاة.. لم يشتغل عنها بنافلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة.. فلا صلاة إلا المكتوبة».
وإن أدرك الإمام في القيام، وخاف أن تفوته القراءة.. لم يشتغل عنها بدعاء الاستفتاح؛ لأنه نفل، فلا يشتغل به عن الفرض.
وإن قرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام قبل أن يتم المأموم الفاتحة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يركع، ويترك باقي الفاتحة، وهو ظاهر النَّص في "الأم"؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا ركع.. فارْكعوا».
ولأنه لو دخل، فركع الإمام قبل أن يقرأ.. لزمته متابعته في الركوع، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يلزمه أن يتم الفاتحة؛ لأنه لما لزمه بعض القراءة.. لزمه إتمامها.
وإن أدركه راكعًا، فركع معه، واطمأن.. فقد أدرك هذه الركعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك الرُّكوع من الرَّكعة الأخيرة يوم الجمعة.. فليصف إليها أُخرى، ومن لم يدرك الرُّكوع.. فليصل الظهر أربعًا». ولأنه قد أدرك معظم هذه الركعة، فاحتسب له بها.
وإن رفع الإمام رأسه من الركوع، قبل أن يركع المأموم.. لم يحتسب له بهذه الركعة؛ لحديث أبي هريرة، لأنه لم يدرك معظمها.
وإن هوى المأموم للركوع، فتحرك الإمام في الرفع من الركوع، فإن بلغ المأموم في ركوعه موضع الإجزاء في الركوع - وهو بقدر أن يقبض بيديه على ركبته- واطمأن قبل أن خرج الإمام عن حد الإجزاء في الركوع.. اعتد للمأموم بهذه الركعة؛ لأنه قد أدرك معه الركوع.
وإن لم يبلغ المأموم أول حد الإجزاء، حتى خرج الإمام عن حد الركوع.. لم يعتد للمأموم بهذه الركعة، كما لو أدركه بعد الرفع من الركوع.

.[فرع: نسيان التسبيح في الركوع]

نسيان التسبيح في الركوعفإن ركع الإمام، فنسي التسبيح في الركوع، فرفع رأسه، ثم رجع إلى الركوع، ليُسبح.. فظاهر كلام الشافعي: أن صلاة الإمام لا تبطل بذلك.
قال الربيع: وفيه قولٌ آخر: (أن صلاته تبطل).
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا كان الإمام جاهلاً بتحريم ذلك؛ لأنه زاد في صلاته زيادة من جنسها جاهلاً.
وحيث قال: (تبطل) أراد إذا كان عالمًا بتحريم ذلك.
فإن أدركه المأموم في هذا الركوع الثاني، في موضع لا تبطل فيه صلاة الإمام.. لم يحتسب له بهذه الركعة.
ومن أصحابنا من قال: يحتسب له بهذه الركعة، كما لو أدرك معه الركعة الخامسة.
والمذهب الأول؛ لأن هذا الركوع لا يحتسب للإمام به، ويخالف إذا أدركه في الخامسة؛ لأن المأموم قد أتى بأفعال الركعة كلَّها، وها هنا لم يأت بكمال الركعة، والذي أدركه مع الإمام، فليس من صلب صلاته، فوزان هذا من مسألتنا: أن يدركه المأموم في الركوع في الخامسة، فإنه لا يحتسب له بهذه الركعة أيضًا، وهذا كما نقول فيمَنْ صلَّى خلف جُنُبٍ، لم يعلم بحاله، فإن صلاة المأموم تجزئه؛ لأنه قد أتى بها كاملة، ولو أدرك الجنب في الركوع.. لم يعتد له بهذه الركعة؛ لأن القراءة إنما تسقط بفعل إمام صحيح.

.[فرع: إدراك الإمام ساجدًا]

وإن أدرك الإمام ساجدًا.. فإنه يكبر للافتتاح قائمًا، ثم يخرُّ على السجود من غير تكبير.
ومن أصحابنا من قال: يخرُّ بتكبير، كما لو أدركه راكعًا.
والمذهب الأول؛ لأن هذا ليس بسجود معتد به للمأموم، بخلاف ما لو أدركه راكعًا.
وإن أدرك مع الإمام السجدة الأخيرة.. لم يعد الأولى.
قال في "الفروع": وقد قيل: يعيد الأولى. وليس بشيء.
وإن أدركه قاعدًا للتشهد.. فإنه يخرُّ إلى الجلوس من غير تكبير، وجهًا واحدًا، وقد نص الشافعي عليه في " البويطي ".
والفرق بينه وبين الركوع والسجود: أن الجلوس عن القيام في الصلاة لم يشرع بحال، فلم يكبر له بخلاف الركوع والسجود.
وهل يتشهد مع الإمام؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنه يتشهد معه) كما يقعد، وإن لم يكن موضع قعوده.
والثاني: لا يتشهد، لأن هذا ليس بموضع تشهده.
فإذا قلنا: يتشهد.. فإنه لا يكون واجبًا عليه؛ لأنه إنما يلزمه متابعة الإمام في الأفعال، دون الأذكار. فإن كان هذا في التشهد الأول.. فإن الإمام إذا قام.. فإن المأموم يقوم معه بتكبير؛ لأنه يقوم على ابتداء ركعة.
وإن كان أدركه في التشهد الأخير، فسلَّم الإمام.. فإن المسبوق يقوم من غير تكبير، لأن هذا ليس بابتداء ركعةٍ له، وإنما هو أثناء ركعةٍ، وليس له إمامٌ مُكبرٌ، فيتبعه، وإذا قام، فإنه يبتدئ بالقراءة، ولا يُسن له الابتداء بدعاء الاستفتاح؛ لأن دعاء الاستفتاح قد فات محله؛ لأنه إنما يؤتى به عقيب تكبيرة الافتتاح.